طاعون العصر

Friday, 20 December 2013

د. عبدالله الحريري

الإيدز (AIDS)

قالوا عنه أنه طاعون العصر ، و نعته بعضهم بقاتل العائلات ، وأسماه بعضهم حاصد الأرواح .

  فهو بالحقيقة طاعون عصرنا ، ويستحق من الألقاب ما هو أكثر من هذا ، إنه “الإيدز ” ، أو مرض نقص المناعة المكتسب ، ذلك الداء العضال الذي ينجم عن فيروس يدعى بفيروس نقص المناعة  البشرية  HIV ،وهذا الفيروس يعتبر من المخلوقات الضعيفة حيث إن المنظفات البسيطة تقضي عليه ، ولذلك فإن انتقاله يحتاج لتماس صميمي وشديد كما يحصل عبر التماس الدموي أو الاتصال الجنسي ، ويؤدي عند استيطانه الجسم لمرض منهك للمناعة حيث لا يحلو له إلا نوع من كريات الدم اللمفاوية التي خلقها الله تعالى لحماية جسمنا ، و من هنا اكتسب المرض اسمه المعروف.

    هذا الداء يعتبر من المشاكل الصحية الكبرى في عصرنا الحاضر ، وربما سيبقى كذلك لفترة نرجو الله ألا تطول ، لقد كانت بداية القصة معه عام (1981) حيث عرفته البشرية لأول مرة كضيف غير مرحب به ، و سجلت إصابة أول طفل عام ( 1983) وبدأ ينتشر كالنار في الهشيم و الآن هو يرتع في كل أنحاء العالم و لكن بنسب مختلفة ، لقد أصبحت حالاته تعد بالملايين، و ربما عشراتها ، بينما الذين يحملون الفيروس يعدون بأضعاف ذلك من دون أن تظهر عليهم علائم المرض ، و للأسف فإنه في بعض بقاع القارة الأفريقية قد أصبح ربع النساء الحوامل وعشر أطفال المشـافي هناك يحملون فيروس الإيــدز كما في منطقة البحيرات الكبرى هناك . في الولايات المتحدة هناك عشرات الألوف من الأطفال المصابين و الذين يموتون  أو في طريقهم للموت ، ويشكلون حوالي ( 1,5%) من حالات الإيدز هناك ، و حالات الولدان الجدد تزداد بشكل خطير هذه الأيام ،حيث يولد في كل سنة (7000)وليد لأمهات مصابات بالمرض ، و من هؤلاء سيصاب ( 2000) طفل ، و الطامة الكبرى أن معظم أولئك الأمهات لا يعلمن أنهن مصابات ، في الحقيقة إن (75%) من الأطفال المصابين قد انتقل إليهم المرض من أمهاتهم لأن الأم الحاملة للفيروس تؤدي لاحتمال إصابة ابنها بنسبة تتراوح من (20-30%)، و تتضاعف نسبة إصابة الحمل الثاني ، و عندما نتكلم عن المصابات لا ننسى أن نذكر أن لديهن غالبا مشاكل أخرى مثل نقص العناية الصحية ، و الثقافة المحدودة ، و فقر الدم ، وتعاطي الكحول و السجائر و المخدرات ،و انتشار الأمراض المنتقلة بطريق الجنس كالزهري (السفلس) و السيلان البني ، و كذلك التهاب الكبد ، وكلها مشاكل تفاقم من معاناة الوليد .

     إن( 80% )من المصابات في الولايات المتحدة هن في سن الإنجاب ( 13-39سنة)، و لقد أصبح الإيدز السبب الرئيسي المؤدي للموت عند الأطفال بعمر (2-5) سنوات في مدن عديدة من ولايات الشرق الأمريكي ، كما أضحى خامس سبب مؤدي للوفيات عند الأطفال بعمر دون الـ(15) سنة . وفي بلادنا لا توجد احصائية دقيقة تحدد نسبة المصابين بهذا الفيروس.

ينتقل الإيدز عبر سوائل البدن كالدم  سواء مباشرة أو عبر نقل الدم أو أحد مشتقاته أو بواسطة المني وحليب الأم ، و هناك خطر قليل لانتقاله بالدموع أو بالعض ،كما قد يوجد الفيروس في البول،و قد ينتقل بإعطاء أدوية أو مخدرات بحقن ملوثة داخل الوريد.

    الفيروس بليد وخطير ، فلا يغرنك مكوثه في البدن بعد دخوله لفترة طويلة قد تصل لأشهر أو سنين قبل ظهور دلائل المرض، و فترة الصمت هذه قد تكون أقصر عموما˝ عند الأطفال منها عند الكبار ، وبعد صمته المريب يبدأ الفيروس رحلة الأرض المحروقة فيؤدي لتحطيم الجهاز المناعي ، كما أنه لا يسلم منه عضو أو جهاز. إنه يستسيغ من خلايا الإنسان صبغياتها ( كروموزوماتها) فيستوطن هناك ؛ و الصبغيات هي جوهر الخلايا.

و هناك بالتالي مجموعة واسعة من المظاهر الناجمة عن الداء فالوزن ينقص ، و النمو يتضاءل ، و الرئة تلتهب ، و الكبد يتضخم ، و يحدث إسهال مزمن و حمى لا تفسر بسبب آخر ، كما تحيق بالبدن التهابات جرثومية خطيرة و متكررة مثل تجرثم الدم و الحمى الشوكية ( التهاب السحايا ) و التهاب العظام و المفاصل و الخراجات ، و تتراجع ملكات ووظائف الجملة العصبية ، و يحدث اعتلال في الدماغ يؤدي للعمى و اضطرابات في الحركة و تشنجات و اختلاجات  و صغر بالرأس و صعوبات في اللغة و الكلام و نقص بالإدراك و تأخر عقلي و نعاس و ترنح في المشي و اعتلال بالأعصاب و تورم بالغدد النكفية على جانبي الوجه ، كما تكثر الإصابة بفطر المبيضات ( Candida ) و الفطريات  الأخرى بأنواعها المختلفة ، و تستفحل الآفات الفيروسية بأشكالها ، و ينتشر مرض السل ، و تكثر الاضطرابات الهضمية و اعتلال القلب و أمراض الكلى و الجلد و الأكزيما إلى ما هنالك من علل لا يحسد صاحبها عليها ، و يتوج ذلك سرطانات غير قليلة تثير الرعب بمجرد ذكر اسمها .

   أما الذي يولد مصابا˝ فقد تكون له سحنة وجهية مميزة ، حيث تتباعد العينان عن بعضهما ، و تتبارز الجبهة ، ويتسطح جذر الأنف ، و تنخرف العينان ، و تكون شقوق الأجفان طويلة ، و صلبة العين ( البياض ) تكون زرقاء ، و الأنف يكون قصيرا˝ ، و الشفاه متهدله ، و منتصف الشفة العليا يكون على شكل مثلث ، و الرأس يكون صغيرا˝ و الوزن ناقصا˝ ، بالإضافة للمظاهر التي ستظهر لاحقا˝ .

إن ما ذكرناه من نكبات تلم بالبدن سيؤدي بالتأكيد لحدوث إعاقات حقيقية عند الأطفال تتوزع على كل شعب الإعاقات المعروفة من عقلية إلى حركية إلى بصرية و سمعية و كلامية ، لا بل تتكالب عدة إعاقات و بنفس الوقت على المريض الذي لا بد أن يقعده المرض إلا من رحم ربي .

عادة ما يشخص المرض عند الأطفال بعمر ما بين شهرين إلى ثلاث سنوات ، و هؤلاء الأطفال البائسين بحاجة للعناية التمريضية الماهرة و الخبيرة ، و كذلك للرعاية الاجتماعية الصبورة ، و الدعم النفسي و المعنوي و المادي المناسب ، أما في باب العلاج ، فإن الدواءين الرئيسين اللذين يستخدمان عند الأطفال هما دواء الزيدوفودين ZIDOVUDINE) ( و دواء أكسي إينوزين DIDEOXYINOSINE) ) ، و لهما نفع كبير نسبيا˝ بالإضافة للمعالجات الداعمة العديدة و المضادات الحيوية  لمعالجة  الالتهابات البكتيرية ، مع الأخذ بعين الإعتبار أن علاج ما قد يتعرضون له من أمراض له بعض الخصوصية من حيث نوعية الأدوية و جرعاتها و المدة التي يجب أن يعطى الدواء خلالها ، و هناك طرق أخرى حديثة قيد التطوير لعلاج الأطفال ، و كل ذلك يحسن الحالة و لا يشفي من المرض .

    إنه مما يجب ذكره أنه إذا عرفت الأم أنها مصابة فإن ذلك يساعد كثيرا˝حيث أن تلقيها لدواء الزيدوفودين يقي – بإذن الله – من انتقال المرض لجنينها .

    إن هذا الداء يفرض علينا تطبيق برنامج خاص لتطعيم الأطفال المصابين بدل النظام الروتيني المعتاد ، حيث يتم حذف أو استبدال بعض اللقاحات (التطعيمات) .

    الإيدز عنوان لقصة نهايتها باختصار الوفاة و حتى إشعار آخر ، ففي دراسة كبيرة تبين أن أولئك الأطفال يعيشون بعد بدء المرض فترة ما بين ( 2,5 ) شهر و ( 10 ) سنوات ، و المتوسط أقل من سنتين .

     و في الختام  الإيدز مرض فتاك طالت شروره أرجاء المعمورة ، و مجتمعاتنا من المجتمعات النظيفة نسبيا˝ – و الحمد لله –  و هذا يدعونا أكثر للحفاظ على نقاء البيئة الصحية لدينا  و ذلك بالتمسك بالأخلاق الفاضلة و العادات الصحية السليمة ، و الإبتعاد عن مواطن الشبهات و الرذيلة المنتشرة في المجتمعات الأخرى .

نزل المقال من هنا

TOP